*كلمة اللقاء الإعلامي الوطني في حفل تكريم وزير الثقافة 28-9-2023*

عاجل

الفئة

shadow


*ناصر قنديل*

نحن في اللقاء الإعلامي الوطني جمع حر لعقول حرة، تلاقت حول هوية ثقافية للبنان، عقول لا مهنة لها إلا الثقافة، لأن الثقافة حارس معاني الكلمات، تضخ فيها الروح لتحولها من عالم اليباس إلى خضرة الحياة. 
وهذه المنصة أردناها للحوار والجمع، وأول شروط الحوار اتفاق على المعاني في استخدام الكلمات واللغة، واللغة هي أداة الحوار، فلا ثقافة دون اللغة، وأول الحوار الثقافي مفهوم تعاقدي بين أهل اللغة على معنى متفق عليه لاستخدام الكلمات، كما يقول ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع اللغوي.
الثقافة، كلمة عربية أصيلة عريقة تنتسب من فعل ثقف، وثقَف وثقف ومثقف، تدور معانيها حول تقويم المعوج وإصلاحه، واكتساب الحذاقة والفطنة، أما الاستخدام المعاصر لمصطلح الثقافة كمرادف للمصطلح اللاتيني culture، والتي جاءت اشتقاقا من الفلاحة والبذار والزراعة، الوارد بعد الاستخدام العربي بقرابة ألف عام لمفردة الثقافة، فلم يغير من التصاق استخدام الثقافة بالجمع بين نشر بذور أفكار جديدة وتهذيب الذوق و الارتقاء به واكتساب المهارات والمعارف.
أما الهوية الثقافية فهي تعاقد ضمني آخر، ينشأ بالتراكم عبر التاريخ بين أهل الهوية، ولا يصاغ على موائد الكلام والسياسة، بل في الوجدان الجمعي بصفته فعل اجتماع إنساني تراكمي بالتراضي. فالهوية الثقافية ليست سياسية، بل ضمير الوطنية العميق، وفي لبنان المؤسس على التراضي حول وحدة التنوع، تأتي قيمة الهوية الثقافية من كونها مغامرة اختبار إنساني مفتوح على الزمن، لإنشاء هوية يتشارك فيها المختلفون. 
لقد اختار اللبنانيون مشقة الزواج الثقافي على سهولة الطلاق، ومن هنا جاءت فرادة النموذج والمثال الذي استحق توصيفه بأنه "أكثر من وطن إنه رسالة"،  كما قال البابا يوحنا بولس الثاني، وتعاقد اللبنانيون على أن جمال الفسيفساء التي اشتهر بها أجدادهم المتعددي الجذور يتأتى من جمعها لا من تفرقها، وأن قيمة كل قطعة فيها لا يقرره حجمها كما هو الحال عند تفردها، بل إن قيمتها هي بما تضيفه من جمال للجمع، ولم يثنهم عن المضي بهذا التعاقد ما تسببت به مساوئ الإدارة السياسية لهذه الهوية الثقافية من أزمات وحروب، وهكذا أعادوا تكرار المحاولة في كل مرة، بعزيمة أقوى وإرادة أشد، ليقين بأن في هذه الفرادة ما يستحق المحاولة.
من نتاج جمالية وابداع هذه الفرادة أن اللبنانيين اختاروا على سبيل المثال، في هويتهم عن العروبة اجمل ما قاله المسيحيون وما قدموه لها، واختاروا عن نهائية الكيان الذي بنوه كوطن نهائي لهم أجمل ما قاله المسلمون وما قدموه له.
قد يبدو غريبا لدى البعض، القول أن أفضل مرجع جامع في توصيف عناصر الهوية الثقافية اللبنانية، هو ما أورده المفكر والمثقف شارل مالك، لشدة الاختلاف على شخصه، الذي يضاهيه ما نعتقده فرصة الاتفاق على نصه، معرفا الهوية الثقافية اللبنانية بما هي تمسك بقيم الإيمان والأسرة والحرية والتعدد والتنوع ، وإعلاء شأن اللغة العربية كمؤسسة لبنانية والدفاع عن مكانة العرب وريادة نهضتهم بين الأمم، و مواجهة خطر الكيان الصهيوني الغاصب لأرض العرب، كمصدر خطر وجودي على لبنان.
ونحن نجد أن عناصر الهوية الثقافية التي نتجند للدفاع عنها وحمايتها قد استوفت معانيها واستحقت أبعادها في تعريفات شارل مالك.
الهوية الثقافية للوطن أو الأمة مؤسسة سيادية لها حدودها التي تحتاج من يحرسها، ولها حياضها التي تحتاج من يدافع عنها، وفي الهوية الثقافية اللبنانية، حدود التنوع في الوحدة، وحدود الحرية في الأخلاق، وحدود الحداثة في حماية الأسرة، وحدود اللغة العربية والهوية العربية الناتجة عنها في مواجهة الخطر الصهيوني، وحدود الوحدة في حرية المعتقد.
هذه الهوية الثقافية اللبنانية شكل وزير الثقافة ثقاف رمحها أي مصلحه، و مسدد قوسها أي باريه ، يصلح من شأنه ويسدد وجهته، يتصرف معها بحذاقة ومهارة، كما هو التعريف المعجمي للثقافة ، وقد وجدها عرضة لخطر الاعتداء والانتهاك، و معاول الهدم تشتغل في بنيانها، وكما سعت هذه المعاول للفرقة بين لبنان وعروبة اللغة، وسعت للتنكر لمسؤولية لبنان في مقاومة الغزوة الصهيونية، كما يسميها شارل مالك، وصل استهدافها اليوم إلى الوحدة والتعدد والتجرؤ على رفع رايات الفتنة والانقسام، وبلغ بعض سهام الاستهداف الى  الأسرة ومحاولة إحلال نموذج هندسي جديد للمجتمع يقوم على تفكيكها، من خلال مشروع وافد إلينا يحاول أن يلبس لبوس الثقافة، من بوابة الحرية.
 
مواجهتنا الثقافية ليست مع الحرية الشخصية، بل مع محاولة شاذة لنقل الشذوذ من كونه نقطة ضعف، إلى جعله قيمة مضافة تستحق التباهي لتشكل عنوان الهوية الثقافية البديلة، لمجتمع بلا أسرة يتحدي تعاقد الإيمان، ومشيئة الخالق، وقد انبرى وزير الثقافة حارس الحدود السيادية للهوية الثقافية اللبنانية،  فارس يمثل الاجتماع اللبناني، يتصدى لها من موقع مسؤوليته الدستورية والوطنية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية.
أما الحرية  فهي ركن من أركان هذه الهوية لا تراجع عنه ولا مساومة عليه ولا تفريط فيه، لكن نحن نميز بين حرية العقل وحرية اللسان وحرية الجسد.
حرية العقل هي حرية الإبداع وحرية الاعتقاد وحرية التفكير، وما حرية التعبير إلا ترجمة لها.
أما حرية اللسان التي لا تعبر عن نتاج العقل ، فهي حرية الشتم والبذاءة وزرع الفتن، وهي حرية السخافة.
أما حرية الجسد فهي حرية التعري وحرية الدعارة والشذوذ، وهي ليست من الحريات الاجتماعية، هي حرية الشعوذة والخرافة لا حرية الثقافة.
نحن أهل حرية الثقافة والحصافة لا حرية السخافة والجلافة أو الشعوذة والخرافة.
وانحطاط نهضة الأمم يبدأ عندما تبني مشروعها الثقافي على حرية اللسان والجسد وتفقد راية الدفاع عن حرية العقل وتعجز عن تحمل تبعات الالتزام باحترام العقول الحرة.
ليست صدفة أن يجتمع التنوع اللبناني حول وزير الثقافة، والتكريم هنا هو إعلان اجتماع على تجديد تعاقد اللبنانيين حول هويتهم الثقافية.
يقول جواد بولس في كتابه شعوب الشرق الأدنى، بإمكاننا أن نؤكد في ميدان الشعور الديني أن المسيحيين الشرقيين أقرب الى مسلمي الشرق مما لدى إخوانهم بالدين في الغرب " ، ولهذا  التنوع ينتسب المرتضى،بكل حب ورضى، ولهذا نقول أعطيت القوس مثقفها وفق معجم المعاني، أي مصلحها ومصوب اعوجاجها، أي باريها، أو وفق قول الحطيئة : 
 " يا باري القوس بريا ليس يصلحه لا تظلم القوس أعط القوس باريها".

الناشر

Testali Ahmad
Testali Ahmad

shadow

أخبار ذات صلة